سورة يس - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يس)


        


يقول الحق جلّ جلاله: {وآية لهم أنَّا حَمَلْنا ذُريتَهُم} أولادهم، الذين يبعثونهم إلى تجاراتهم، أو صبيانهم ونسائهم الذين يستصحبونهم؛ فإن الذرية تقع عليهن؛ لأنهن مزارعها. وتخصيصهم؛ لأن استقرارهم في السفن أشق، وتماسكهم فيها أعجب، أو خصهم؛ لضعفهم عن السفر، فالنعمة فيهم أظهر. فحملناهم {في الفلك المشحونِ}: المملوء، والظاهر: أن الضمير في {ذريتهم} للجنس. كأنه قال: ذُريات جنسهم ونوعهم. قال ابن عباس وجماعة: يريد بالذُريَّات المحمولين: أصحابَ نوح في السفينة، ويريد بقوله: {وخلقنا لهم من مثله ما يركبون}: السفن الموجودة في جنس بني آدم إلى يوم القيامة، وإياها عنى بقوله: {وإن نشأ نُغرقهم...} إلخ. وأما إطلاق الذرية على الآباء، فقال ابن عطية: لا يُعرف لغة، وإنما المراد بالذرية الجنس، أو حقيقة ما تقدّم. وعليه يكون قوله: {وخلقنا لهم من مثله ما يركبون} يراد به الإبل؛ فإنها سفن العرب.
{وإِن نشأ نُغْرِقُهم} إذا ركبوا سفن البحر، {فلا صَرِيخَ لهم} فلا مغيث، أو: لا مستغيث لهم، وهو أبلغ، أي: لم تبقَ لهم قدرة على الاستغاثة. {ولا هم يُنْقَذُونَ} ينجون من الموت، {إِلا رحمةً منا ومتاعاً إلى حينٍ} أي: لا ينقذون إلا لرحمة منا، لتمتيع بالحياة إلى انقضاء الأجل. فهما مفعولان له. وقال بعضهم: الاستثناء راجع لثلاث جمل: {نغرقهم}، {فلا صريخ لهم}، {ولا هم يُنقذون}.
الإشارة: إذا عامت أفكار العارفين، في بحار التوحيد، وأسرار التفريد، تلاطمت عليها أمواج الدهش من كبرياء الله، فإن سبق لها سابق عناية الاعتدال؛ أوت إلى سفينة الشريعة، بعد ركوبها في فلك الحقيقة، وإليه الإشارة في قوله: {حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون}. وإن لم تسبق له عناية، غَرِقَ في بحر الزندقة والإلحاد، كما قال تعالى: {وإن نشأ نُغرقهم فلا صريخ لهم} من شيخ كامل، ولا هم يُنقذون إلا رحمة منا ومتاعاً إلى حين الكمال، فيعتدل. قال القشيري: الآية إشارة إلى حَمْلِ الخَلْقِ في سفينة السلامة، في بحار التقدير، عند تلاطم أمواجها، بفنونٍ من التغيير والتأثير، وكم من عبدٍ غرق في أشغاله، في ليله ونهاره، لا يستريح لحظةً في كَدِّ أفعاله، ومقاساة التعب من أعماله، وجَمْعِ ماله، بنسيان عاقبته ومآلِه. ثم قال في قوله تعالى: {وإِن نشأ نُغرقهم}: لولا صفة جُوده وفَضْله؛ لَحَلَّ بهم من البلاء ما حَلَّ بأمثالهم، لكنه لحُسْنِ إفضاله، حفظهم في جميع أحوالهم. اهـ.


قلت: جواب {إذا} محذوف، أي: أعرضوا، فدلّ عليه قوله: {معرضين}.
يقول الحق جلّ جلاله: {وإِذا قيل لهم} أي: كفار قريش: {اتقوا ما بين أيديكُم وما خلفَكُم} أي: ما تقدّم من ذنوبكم، وما تأخّر مما أنتم تعملونه بعدُ، أو: ما بين أيديكم: ما سلف من مثل الوقائع التي حلَّت بالأمم المكذبة قبلكم، وما خلفكم من أمر الساعة، أو: ما بين أيديكم من فتنة الدينا، وما خلفكم من عذاب الآخرة. {لعلكم تُرحمون} لتكونوا في رجاء رحمة الله، فإذا قيل لهم ذلك أعرضوا.
قال تعالى: {وما تَأتيهم من آيةٍ من آيات ربهم} الدالة على وحدانيته تعالى، وصدق رسوله، {إِلا كانوا عنها معرضين} لا يلتفتون إليها، ولا يرفعون لها رأساً، فـ من الأولى لتأكيد النفي، والثاني للتبعيض، أي: دأبهم الإعراض عن كل آية وموعظة.
{وإذا قيل لهم أَنفقوا مما رزقكم اللهُ} أي: تصدّقوا على الفقراء، {قال الذين كفروا} من مشركي مكة {للذين آمنوا أَنُطْعِمُ من لو يشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ} عن ابن عباس رضي الله عنه: كان بمكة زنادقة، فإذا أُمروا بالصدقة على المساكين، قالوا: لا والله، أيُفقره الله ونُطعمه نحن؟!. قيل: سبب الآية: أن قريشاً لَمّا أسلم ضعفاؤهم، قطعوا عنهم صِلاتهم، فندبهم بعضُ المؤمنين إلى ذلك، فقالوا تلك المقالة.
وقيل: إن قريشاً شَحَّتْ بسبب أزمة نزلت بهم على المساكين، مؤمِنهم وكافرهم، فندبهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى النفقة على المساكين، فقالوا على سبيل الجهل: أَنُطعم قوماً أراد الله فقرهم وتعذيبهم. ومن أمثالهم: كن مع الله على المدبر، حتى كان الرجل يرعى إبله، فيجعل السِمَان في الخصب، والمهازيل في الجدب، فإذا قيل له في ذلك، قال: أُكرم ما أَكرم الله، وأُهين ما أهان الله. ويحتمل أن يكون قولهم ذلك استهزاءً، فكأنهم قالوا: لِمَ لا يرزقهم إلهك الذي تزعم.
قال الكواشي: قد يتمسّك بهذه الآية بعضُ البخلاء، فيقول: لا أُعطي مَن حرمه الله. وليس هذا بصحيح؛ لأن الله تعالى أغنى وأفقر، وجعل للفقير جزءاً من مال الغني كما يشاء. وفي الإحياء: أن المراد بالصدقة وشرعها: التخلُّص من رذيلة البخل، وذكل نفع يعود على المتصدق، بإخراجه عن حب الدنيا، وتعلُّق قلبه بها، الصادّ عن الله، وهؤلاء لم يفهموا حكمة الله، فقالوا ما قالوا. اهـ. ثم قال: {إِن أنتم إِلا في ضلال مبين} في أمركم لنا بالنفقة، أو في غير ذلك من دينكم، أو: يكون من قول الله تعالى للكفرة.
الإشارة: وإذا قيل للعامة: اتقوا ما بين أيديكم، من شدائد الدنيا، وما خلفكم، من أهوال الآخرة، لعلكم تُرحمون فيهما؛ فإن التقوى الكاملة تحفظ الرجل في حياته وبعد مماته، وربما يسري الحفظ إلى عقبه، كما هو مشاهد في عقب أولياء الله.
أو: إذا قيل لهم: اتقوا خواطر التدبير فيما بين أيديكم؛ إذ ليس أمره بيدكم، فجُل ما تبنيه من التدبير تهدمه رياح التقدير، وخواطر التدبير، فيما سلف قبلكم، إذ فيه تحصيل الحاصل، وتعطيل الوقت بلا فائدة. {لعلكم تُرحمون} بمقام الرضا، وسكون القلب وراحته تحت مجاري القضاء، أعرضوا وانهمكوا في أودية الغفلة والخواطر. وما تأتيهم من آية دالة على وحدانيته تعالى، وانفراده بالخلق والتدبير، إلا كانوا عنها معرضين.
قال القشيري: هذه صفة مَن سَيَّبَهم في أودية الخذلان، ووَسَمَهم بسِمَة الحرمان، وأصَمَّهم عن سماع الرُّشْد، وصَدَّهم بالخذلان عن سلوك القصد، فلا تأتيهم آيةٌ في الزَّجْرِ إلا قابلوها بإعراضهم، وتجافوا عن الاعتبار بها، على دوام انقباضهم، وإذا أُمِرُوا بالإنفاق والإطعام عارضوا بأنَّ الله رازقُ الأنام، وإذا شاءَ نَظَرَ إليهم بالإِنعام. اهـ.


يقول الحق جلّ جلاله: {ويقولون} استهزاء: {متى هذا الوعْدُ} أي: وعد البعث والقيامة {إِن كنتم صادقين} فيما تقولون. خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. قال تعالى: {ما ينظرون} ينتظرون {إِلا صيحةً واحدةً} هي: النفخة الأولى، {تأخذُهُم وهم يَخِصِّمُون} يختصمون، يخصم بعضهم بعضاً في المعاملات، لا يخطر ببالهم أمرها، فتأتيهم بغتة. وقرأ حمزة بسكون الخاء من: خصمه: إذا غلبه في الخصومة. وفتح الباقون، مع الاختلاس والنقل وعدمهما. {فلا يستطيعُون توصيةً} فلا يستطيعون أن يوصوا في أمورهم بشيء، {ولا إِلى أهلِهِم يَرجِعُون} ولا يقدرون على الرجوع إلى منازلهم، بل يموتون حيث يسمعون الصيحة.
{ونُفِخَ في الصُّور} النفخة الثانية، بعد خُلو الأرض أربعين سنة. والصور: القرن، أو: جمع صورة. {فإِذا هم من الأَجْدَاثِ} القبور {إِلى ربهم يَنْسِلُون} يُسرعون في المشي إلى المحشر.
{قالوا يا ويلنا مَن بَعَثَنَا} مَن أنشرنا {من مَّرْقَدِنا} مضجعنا؟ قال مجاهد وأُبيّ بن كعب: للكفار هجعة يجدون فيها طعم النوم، فإذا صيح بأهل القبور، قالوا يا ويلنا مَن بعثنا؟ وأنكره ابن عطية، وقال: إنما هو استعارة، كما تقول في قتيل: هذا مرقده إلى يوم القيامة. فتقول الملائكة في جوابهم: {هذا ما وَعَدَ الرحمنُ وَصَدَقَ المرسلون} أو يقوله المؤمنون، أو: الكفار، يتذكرون ما سمعوه من الرسل، فيُجيبون به أنفسهم، أو بعضهم بعضاً. و {ما}: مصدرية، أي: هذا وَعْدُ الرحمن وصِدق المرسلين، على تسمية الموعود والمصدوق فيه بالوعد والصدْق. أو: موصولة، أي: هذا الذي وعده الرحمن والذي صَدَقه المرسلون، أي: والذي صدق فيه المرسلون.
{إِن كانت} النفخة الأخيرة {إِلا صيحةً واحدةً فإِذا هم جميع لدينا مُحضَرُون} للحساب، ثم يقال لهم في ذلك اليوم: {فاليوم لا تُظلمُ نفسٌ شيئاً ولا تُجْزَونَ إِلا ما كنتم تعملون} من خير أو شر.
الإشارة: إذا كبر يقين العبد صارت عنده الأمور المستقبلة واقعة، والآجلة عاجلة، فيستعد لها قبل هجومها، ويتأهّب للقائها قبل وقوعها، أولئك الأكياس، الذين نظروا إلى باطن الدنيا، حين نظر الناس إلى ظاهرها، واهتمُّوا بآجالها، حين اغترّ الناس بعاجلها، كما في الحديث في صفة أولياء الله.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7